مقطع من موسوعة نينورتا التاريخية، الجزء الثاني، اللغة الأم، للدكتور أحمد داوود والدكتورة نينورتا أحمد داوود.
بالبداية لا بد أن نقول بوضوح ونؤكد على حقيقة هامة لنفهم حقيقة ما جرى في مسيرة الإنسان العاقل، هذه الحقيقة تقول بأن ثمة بشر بدائي كان منتشراً قبل ظهور الجنس العاقل، هذا البشر البدائي كان أقرب للبهائمية في شكله ونمط حياته، دعوناه في كتبنا السابقة بالبشر البهائمي، وتحدثنا مفصلاً عن احتفاظ التراث العربي القديم بقصص حول اصطدام الجنس العاقل العربي أثناء انتشاره في العالم مع البشر البهائمي الذي كان يعيش حياة الوحوش وفي بعض المناطق يأكل لحم البشر مثله مثل أي حيوان مفترس.
الخطأ الذي وقع فيه علماء الغرب والذي جعلهم يعيدون أسلاف الجنس العاقل إلى سلف إفريقي قدّروا زمنه بملايين السنين هو أنهم لم يميزوا بين النمط البشري البهائمي، ونمط الجنس العاقل العصري، لقد افترضوا استناداً على نظرية التطور بأن الإنسان – القرد كما دعوه قد تطور، طبيعياً، إلى الإنسان العاقل الحالي، لذلك فكلما وجدوا هيكلاً للإنسان البدائي البهائمي – القرد، قالوا هذا من أسلاف الإنسان، وهنا كان منطلق تخبطهم في تحديد حقيقة الجنس العاقل، فما بني على خطأ فلا بد أن يؤدي لنتائج خاطئة.
إن الإنسان – القرد سواء كان في إفريقيا أو آسيا أو في أية بقعة من العالم، ليس بشكل من الأشكال سلفاً للإنسان العصري، لماذا؟:
لكي نفهم الجواب علينا أن نفهم الطفرات الوراثية، ما هي الطفرة ولماذا تحدث؟، يقول العلماء:
“تُعرَّف الطفرة الوراثية بأنها أي تغيير يحدث في السلسلة الجينية الطبيعية للمخلوقات الحية أو الفيروسات لعدة أسباب، وغالباً ما تحدث هذه الطفرات لدى المخلوقات الحية في الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين DNA، ولكن عندما تنشأ الطفرات الوراثية في الفيروسات فإنها قد تحدث في أيٍّ من نوعي الحمض النووي، وقد تتسبب هذه الطفرات الوراثية في نمو غير طبيعي للخلايا، أو قد تسبب بعض الأمراض الوراثية، ولكن هذا لا يعني أن الطفرات الوراثية في كل حالاتها ضارة، حيث إن الطفرات الوراثية في بيئات معينة تعتبر طريقاً للتنوع الحيوي وأساساً لعملية التطور والانتخاب الطبيعي الذي ينتج عنه التنوع والاختلاف في صفات الكائن الحي بين أفراد النوع الواحد”.
إذن الطفرات تحدث بين أفراد النوع الواحد، هذه هي الفكرة المفتاحية التي تجعلنا نفهم حقيقة الخطأ الذي وقع به البعض حين اعتقدوا بأن البشر البهائمي والبشر العاقل ينتميان لنوع واحد وبالتالي فإن طفرة حميدة قد حدثت لبعض المحظوظين من أنماط الإنسان – القرد أو الإنسان – الوحش وأدت إلى تحويل الكائن البهائمي إلى كائن عاقل. ونسأل: هل هذا يمكن أن يكون صحيحاً؟ الجواب لا، لماذا؟ لأنهما ليسا من نوع وراثي واحد. إن الإنسان العاقل هو نمط من البشر جديد تماماً، مختلف تماماً، ما الذي جعله جديداً ومختلفاً؟ العقل، كيف اكتسب هذا العقل؟ هنا نجد العلم عاجزاً تماماً عن الجواب. عالم الأحياء بيتر لورانس مؤلف كتاب “تركيبة الذبابة” دعاه “السر الثالث للحياة”، ففي مقابلة أُذيعت في إطار سلسلة “ناشيونال هيستوريس” قال هذا العالم: “إن تشارلز داروين قد أطلق كل الجهود الخاصة بتحديد أصل ونشأة مختلف الكائنات؛ حيوانات كانت أو نباتات، والسر الثاني هو اكتشاف الحمض النووي، لأنه دون فهم حقيقة أن المعلومات يجري تشفيرها وتخزينها في هذه الجزئيات، لم تكن ستصبح لدينا القدرة الكاملة على فهم الكثير بشأن آلية الحياة. أما السر الثالث، فيرى لورانس أنه يمثل المشكلة الأكبر التي ينبغي على علماء الأحياء معالجتها في المستقبل ويقول: “إنها مشكلة معقدة للغاية إلى حد يجعلنا لا نفكر فيها، ألا وهي: ما الذي يجعل هناك فوارق ما بين وحيد القرن وفرس النهر على سبيل المثال؟”، ويضيف: “عندما ننظر إلى الأمر من الوجهة الجينية سنجد أنه لا فوارق كبيرة بين الاثنين، لذا؛ فما الذي يجعل لكائن حي ما شكلاً معيناً وحجماً بعينه وغير ذلك؟” ويتابع: “أين يتحدد طول أنفك؟، وما هي المعلومات الجينية التي تتوافر عندما يَثْبُتْ أنفك عند طول معين؟ وما الذي يجعل الأطفال يشبهون آباءهم أو أمهاتهم؟ وما الذي يحدّد ملامح الوجه؟ في واقع الأمر؛ لا علم لنا بكل ذلك”. ويستطرد لورانس بالقول: “يشكل ذلك بالنسبة لي أكبر مشكلة لا تزال دون حل في علم الأحياء، وتمثل ما أسميه ‘السر الثالث للحياة’ يراها المرء يومياً، ولكنها ضخمة للغاية ما يجعل كيفية التعامل معها غير واضحة. لن يكون بمقدورك تصوّر بنية كائن حي دون معرفة المعلومات المتعلقة بالاتجاهات الخاصة به. فلتتصور مخططاً لمهندس معماري لا يوجد فيه تحديد للاتجاهات، كالشمال أو الجنوب، هنا لن تعرف في أي اتجاه ستُشيّد المبنى، هناك ما تزال فجوة مظلمة لا يعرف عنها أحد شيئاً”. (“ذبابة الفاكهة” وراء بعض أعظم الاكتشافات العلمية الحديثة، توم بونيه، www.bbc.com).
إذن، إذا كان العلماء ما يزالون لا يعرفون ما الذي يجعل أجنحة الذبابة كبيرة أو صغيرة، سوى أنها طفرة وراثية، والطفرة أيضاً جعلت من عيون الذبابة بيضاء أو حمراء، وجعلت من حمار الوحش مخططاً أم موحد اللون، وجعلت من الخراف بنية اللون أو بيضاء، والتفاح أحمر أم أصفر، والبرتقال ماوردي أم أبو صرة، والعنب أبيض أم أحمر أم أسود… نعم إن الطفرات الوراثية يمكن أن تكون وراء جميع اختلافات النوع الواحد، لكن، هل الطفرة قامت بتحويل وحيد قرن إلى فرس نهر؟ لا. هل قامت الطفرة بتحويل البعوضة إلى ذبابة فاكهة؟، قطعاً لا. هل سمعتم عن طفرة حدثت لجنين قطة جعلته فهداً؟ قطعاً لا. طيب هل حدث وقامت طفرة في جنين قرد في حديقة حيوانات لتصنع منه إنساناً؟ إن هذه نكتة سمجة. فإذا كانت العقول لم تقبل بمثل هذه الاحتمالات لأنها واقعياً لم تحدث، فكيف إذن قبلت بعض العقول بفرضية تطور الإنسان – القرد، أو الإنسان – الوحش، إلى إنسان عاقل؟
وهناك نقطة أخرى تخص علم الوراثة نفسه، هو أن الطفرات المكتسبة الجسدية لا يتم توريثها للأجيال اللاحقة، لكن الذي يمكن تمريره وتوريثه هو تحديداً الطفرات التي تحدث على مستوى الخلايا الجنسية والتي غالباً تسبب حدوث الأمراض الوراثية، وتخضع لقوانين علم الوراثة في احتمالات انتقالها للأجيال الناتجة عن تزاوج الذكر والأنثى، وهل يحمل كل منهما هذه الطفرة أم أحدهما؟ وهل هي متماثلة أم متغايرة الزيجوت.. وهل هي صفات قاهرة أم متنحية؟… وهنا يأتي السؤال المحوري: هل من الممكن أن تنشأ طفرة على مستوى الأمشاج الجنسية بحيث تضيف نيوكليوتيدات جديدة هي المسؤولة عن بناء العقل الذي ميّز الكائن البشري العاقل؟
“في أوائل القرن العشرين وجد أنصار نظرية التطور أنفسهم في ورطة كبيرة بعد وضع مبادئ علم الوراثة؛ إذ ثبت أن الصفات المكتسبة لا تورَّث، بينما نظرية التطوّر كلها تقوم على فكرة ترقي الأنواع الحية بعد تولّد صفات جديدة قابلة للتوريث.
لم يكن أمامهم بد من إدخال فرضية جديدة لإنعاش النظرية، هذه الفرضية تدّعي إمكانية حدوث تغيّر في المادة الوراثية وتوليد مادة وراثية جديدة، ثم توريث هذه المادة الوراثية الجديدة، وصفوها باسم الطفرة. لكن في ضوء مستجدات علم الوراثة، وبعد اكتشاف ثبات تركيب الجين عند حدوث تغيّرات بيئية، وأن استجابة الجين لتلك التغيرات لا تتعدى تغيّر ما ندعوه بالتعبير الجيني، ثبت علمياً أن الطفرات الكروموسومية والجينية في الأمشاج الجنسية (الجاميتات) المذكرة أو المؤنثة إما أن تؤدي إلى موت، أو تشوّه الأجنّة، أو إصابتها بأمراض خطيرة كاللوكيميا والتخلف العقلي، ولم يحدث أن شاهدنا على كثرة الأنواع الحية والأفراد التي تمثلها أية صفة جديدة نشأت. يفترض التطوّريون أنه قد تحدث الطفرات طبيعياً، ولكن ذلك الاحتمال في منظور العلم شبه معدوم بسبب وجود آليات ذاتية لإصلاح أخطاء النسخ في الحمض النووي DNA، كما أن الطفرات قد تحدث صناعياً نتيجة تعرّض الفرد لما يسمونه عوامل التطفر مثل الإشعاع والمواد الكيميائية الضارة وبعض العقاقير الطبية، كما أن العلماء اكتشفوا بناءً على الدراسات الرائدة والحديثة أنه قد يحدث تنشيط لمعلومات جينية كانت مثبَّطة في جينوم النوع الحي استجابة لظروف البيئة؛ وبالتالي فليس ثمة معلومات جينية جديدة متولِدة، وهو ما تفترضه نظرية التطور كأساس للانتواع (اختلافات الأنواع)، الأهم أن تنشيط الجينات المعطَّلة لم يعد يُنظَر إليه على أنه نتيجة طفرات، إذ لم يحدث تغيير في تركيب الجينات، والأمر لا يعدو أن يكون استجابة للتغيرات في نمط الحياة، بالتالي فهو يتبع الآن علم يدعى علم فوق الوراثة بلا جدال، وهذا يفتح الباب أمام إعادة النظر بمفهوم الطفرة.
لكن أنصار فرضية التطور الانتواعي الطبيعي يطلبون من العالم التصديق بأنه كانت توجد طفرات مفيدة، أضافت معلومات جينية جديدة، وغيّرت تسلسلات الجينومات للأسلاف، نتجت عنها صفات جديدة عديدة، وكانت قابلة للتوريث، وسبّبت نشأة كل هذه الأنواع التي سكنت الأرض، ولكنها فقط لا تظهر لنا الآن، وتتخفّى عنا منذ كُتِب تاريخ البشر!”. (د. منى زيتون، علم فوق الوراثة، هل ينسف مفهوم الطفرة؟).
والآن ولكي نقرّب الصورة أكثر دعونا نعرّف مصطلح “الحوض الجيني”:
الحوض الجيني Genetic pool بالتعريف العلمي هو منظومة الجينات التي يشترك فيها كل أنواع الجنس الواحد، هو نفس الكروموزومات ونفس عدد الجينات وأماكنها لأنه نفس الجنس، ولكن تعبير الجينات يختلف وهذا ما يدعى بالنمط الظاهري. فهو ليس تطوراً لأنها ليست معلومات جينية جديدة، ولكنه تنوّع بمعنى أن كل كائن مع جيناته المختلفة ينتمي لحوض ممتليء بالمعلومات الجينية التي تختلف عن الحوض الجيني لجنس آخر، فمثلاً الكلاب والذئاب لهم حوض جيني واحد، وكلاهما من الكلبيات التي يمكن أن تتزاوج معاً تحمل جيناتها في نفس المكان على الكروموزوم والتركيب ولكنها مختلفة في التعبير فتنتج بروتينات مختلفة قليلاً تحمل صفات مختلفة قليلاً ولكن لها حدود لا تستطيع أن تتخطاها وهي لم تكتسبها من العدم. بمعنى أنه يوجد في الحوض الجيني للكلاب صفات الأطوال المختلفة وصفات الشعر المختلفة وصفات الألوان المختلفة وصفات أحجام مختلفة وهذا ما يعطي للكلاب تنوّعها الظاهري المرئي والوظيفي بوضوح، ولكن كلها وأيضاً الذئاب وابن آوى تحمل خلاياها 78 كروموزوم، لذلك فتزاوج الذئاب مع الكلاب وارد، وعُرف عند العرب منذ قديم الزمن؛ لأن الذئب يملك 78 صبغياً (كروموسوم)، في حين أن الضبع يملك 40 صبغياً وبالتالي لا يمكن للإخصاب أن يتم من الناحية الوراثية بين الضبع والكلب، لذلك وضع العرب الضبع تحت فصيلة حيوانية أخرى هي الضبعيات، ولنفس السبب لا يمكن التزاوج بين الذئب والثعلب الذي يحمل 34 كروموزوم برغم التشابه بينهما وبرغم تصنيفه ضمن الكلبيات.
بينما عدد كروموسومات الحصان 64 والحمار 62 وضعهما العرب تحت فصيلة الخيليات وبالتالي فعلاً يمكن التزاوج ويكون الناتج هو البغل العقيم ذي 63 كروموزوم. حتى بالنسبة للقرود التي هي الأقرب رتبة إلى الإنسان كما يعتقد البعض، لكن عدد الكروموسومات بينها وبين الإنسان مختلف، فالإنسان لديه 46 كروموسوم بينما تملك القرود 48 (الكروموسوم هو خيط طويل من DNA يلتف حول نفسه ويحوى الجينات التى تحمل معلومات خاصة، هذه المعلومات الجينية تشبه بصمة الإصبع فهي بمثابة هوية الكائن الحي التي تميزه)، لكن لم تنجح تجربة واحدة في إنجاب هجين بين الإنسان والقرد.
وأيضاً الفصيلة القطية التي يقع ضمنها القط والنمر والفهد والأسد تحمل كلها 38 كروموزوم وبالتالي فمن الممكن تزاوجها علمياً، لكن هذا لا يحدث، وهذا يفسر ما دعاه العلماء حديثاً بعلم فوق الوراثة، وهو ضرورة التجانس.
إن اللغة العربية، المذهلة، الكونية، لغة العلوم بلا منازع، ما تنفك تفاجئنا بدقتها وبحمل كلماتها لمعلومات علمية دقيقة، فحين نقرأ كلمة “تجانس” فنحن هنا أمام “تماثُل الجنس” وليس النوع، إذن يجب أن تكون هناك “ألفة في الجنس” ونحن هنا لا نفسر مفهوم الجنس بمعنى ذكر وأنثى، بل الجنس Genus كتصنيف حيوي في الهرم الحيوي الذي يعرّفه العلماء بأنه مجموعة من الأنواع أكثر ترابطاً وتشابهاً وتشترك في أصل واحد. من الواضح هنا أصل الكلمة العربي، لكن من المذهل هنا ارتباطها العضوي بالجذر “جينات”، وسنفرد لاحقاً فقرة خاصة بشرح المفردات العربية في علم الوراثة والتي يظن الناس بأنها مفردات غربية أجنبية.
إذن فالحوض الجيني يعبّر عن النوع والجنس، أما الاختلافات ضمن النوع أو الجنس الواحد فهذا ليس تطوراً بل هو في الحقيقة تكيّف وهذا التكيف يخضع لقانون الطبيعة الذي هو الانتخاب. إن الظروف المحيطة، والمناخ، وأشياء أخرى، تلعب دوراً بانتخاب أجزاء معينة من الكروموزوم لتصبح صفة سائدة وليست متنحية، فيختلف لون أو طول أو سماكة الشيء، لكنها لا توجده من العدم، هو في أصل البرمجة الوراثية موجود لكنه كامن.
بالمقابل فإن التطور الذي يقصدونه حين الحديث عن ظهور الكائنات إنما يقصدون منه تغير الأجناس إلى أجناس أخرى مختلفة تماماً باكتساب جينات من العدم ثم إمكانية تزاوج المخلوقات الجديدة وهذا علمياً مستحيل.
إن العلماء دعوا منظومة الجينات الواحدة التي تميز كل نوع من أنواع الكائنات الحية بالحوض الجيني لأنها “أشبه بحمّام سباحة عميق، لكل كائن حي حوضه، ولهذا الحوض العميق حيطان منيعة تحيط به، تمنع خروج المعلومات الجينية منه إلى جواره من أحواض الكائنات الأخرى. هكذا يشرحها عالم التطوّر Robert Carroll
في كتابه Patterns and Processes of Vertebrate Evolution: على الرغم من وجود عدد لا يمكن إدراكه من الأنواع التي تعيش على الأرض في يومنا هذا، فإن هذه الكائنات لا تـُمثل طيفاً متكاملاً يحوي في وسطه مراحل انتقالية واضحة، بل على العكس فإن جميع الكائنات الحية يمكن تمييزها في مجموعات كبيرة منفصلة بشكل واضح جداً”.
إن أهم مثال على أن التغيرات التي تصيب التعبير الجيني هي تكيف وليست تطوراً جذرياً هي مسألة “السلالات الجرثومية المعنّدة على الصادات الحيوية: إن البكتيريا تدافع عن نفسها بإجراءات دفاعية فتصبح معنّدة أو مقاومة للصاد الحيوي، لكنها بقيت ضمن نفس نوع البكتيريا ولم تتحول إلى نوع آخر، لكنها اتخذت شكلاً أكثر شراسة، فقط. لهذا اعترف عالم تطوُّر هو مايكل بيهي أن مثال البكتيريا هذا هو ضد التطور في الحقيقة، إذ إن ما نمشي نحوه هو التدهور، وليس التطور. حتى ذبابة الفاكهة الشهيرة التي استخدمت كثيراً في دراسة الصفات الوراثية فبعد إجراء كل المحاولات الذكية وتعريضها لمختلف الضغوط والظروف لكنها لم تتحول لجنس آخر، ذبابة الفاكهة بقيت ذبابة فاكهة تحت أي ظرف من الظروف.
الخلاصة: إن الأجناس تنتج أنماطاً من نفس الجنس بحسب ظروف البيئة، وهذا ليس تطوراً بل هذا تنوع وتكيف بلغة العلوم الجينية، فالتطور هو زيادة محتوي جيني من العدم، وليس إعادة توزيع جيني.
بهذا المحتوى نناقش ظهور الجنس العاقل. إن جميع المكتشفات الأركيولوجية التي تخص هياكل بشرية تعود لملايين السنين إنما هي كما يؤكد العلماء لبشر ليسوا من الجنس العاقل، دعوهم “أشباه البشر”، أو “الإنسان – القرد”، أو هوموهابيل، هوموآركتوس، الإنسان – الصياد… لكنه بكل المعاني إنسان بدائي يفتقد لجميع مقومات الجنس العاقل. وهنا يبرز سؤال: هل تكيف الإنسان البدائي البهائمي تكيفاً نحو الإنسان العاقل بشكل طبيعي تحت قانون الانتخاب الطبيعي؟ وهذا ما يؤيده أنصار نظرية التطور الطبيعي، أم أن تدخلاً ما حدث، من قبل قوى سماوية – الخالق، أدت إلى خلق الجنس العاقل الأول – آدم؟، وهذا ما تؤيده جميع النصوص الدينية وكل أساطير التراث العربي القديم من ألواح سومر وقصة خلق إنليل من قِبل الأنوناكي، وصولاً إلى القرآن الكريم..
الآن سنناقش هذا الأمر من منظور علمي بحت، بعيداً عن الاستشهاد بأي نص ديني أو تراثي عربي قديم.
- أعلنت رويترز مؤخراً عن دراسة علمية هامة تقول “حدّد العلماء ثلاثة جينات ربما لعبت دوراً محورياً في تطور الإنسان، مسؤولة عن الزيادة اللافتة في حجم الدماغ التي سهلت التقدم المعرفي الذي ساعد على تحديد ما معنى أن تكون إنساناً، وتنشط هذه الجينات على نحو خاص في مخزن الخلايا الجذعية العصبية بالقشرة الدماغية، وهي الطبقة الخارجية بالدماغ المسؤولة عن أعلى الوظائف العقلية مثل الإدراك واللغة والذاكرة والتفكير والوعي، ولا توجد هذه الجينات في أقرب الكائنات جينياً إلى الإنسان، فلم يعثر العلماء على أي منها في القردة أو إنسان الغاب”. (تعرّف على الجينات المسؤولة عن تطور الدماغ البشري، رويترز).
إذن هذه الجينات، المحددة، التي افتُرض أنها المسؤولة عن ظهور الدماغ البشري المتطور للإنسان العصري، لا توجد سوى في البشر، ولا توجد في القردة ولا في الإنسان – الوحش، البهائمي. إذن هي جينات نشأت من العدم، وهذا ينافي قانون الانتخاب والتطور الطبيعي الذي يقول بالارتقاء بمحض الصدفة، لأن الطبيعة تنتخب جينات على حساب أخرى بحسب الظروف، لكنها لا تخلقها من العدم.
- تكاد فرضية الإنسان الأول الذي ظهر في إفريقيا تغلب على جميع الدراسات والمواقع والمواضيع التي تتحدث عن نشأة الإنسان العاقل، وفي نفس الوقت يتم تجاهل غريب لحقيقة العجز عن تفسير كيفية وزمن تحوله إلى إنسان عاقل، لكننا هنا سنسأل بعيداً عن الضجيج: إذا كان الإنسان البدائي الذي وجدوا هياكله في إفريقيا كما يقولون هو الذي تحول إلى الإنسان العاقل العصري، فأين آثاره الحضارية التي تعكس قدراته العقلية في إفريقيا؟، في الحقيقة إنها لا وجود لها. هل ظهرت أولى مدنه ومستوطناته في إفريقيا؟ لا بل ظهرت في آسيا العربية بين اليمن وسوريا. هل ظهرت أول كتابة في إفريقيا؟، أول بناء؟، أول ألواح طينية؟، أول عربة؟، أول نحت؟ رسم؟ أدوات موسيقى؟، نظريات رياضية؟، أبراج؟، أسوار؟، مسارح؟، قنوات تصريف وري؟، ملابس؟، تجارة؟، زراعة؟، صناعة؟….. الجواب عليها جميعاً لا، بل في آسيا العربية من اليمن إلى سوريا مروراً بمنطقة الرافدين وصولاً إلى مصر التي وصلها العنصر البشري والحضاري أيضاً من آسيا العربية. إن الكتابة الأولى لهذا الإنسان لم تظهر في إفريقيا، ولا مدنه، ولا علومه.. إذن كيف قبلت العقول فرضية تطور الإنسان البدائي إلى عاقل بمحض الصدفة والاصطفاء في إفريقيا في حين جميع منعكساته الحضارية والمدنية نجدها في آسيا العربية القديمة؟
- إذا كان الإنسان البدائي الموجود أساساً في آسيا قد تطور هو بمحض الطبيعة البحتة إلى الإنسان العاقل العصري، فلماذا هو بالتحديد؟ مع أن الحزام الحيوي في فترة العصر الجليدي لم يشمل جزيرة العرب فقط، أي أن كل الأجناس البدائية التي كانت موجودة حينها من المفترض أن لديها نفس الاستعداد ونفس الظروف ونفس التراكم المعرفي لتحولها نحو الإنسان العاقل، مع هذا لم نجد آثاره الأولى سوى بين اليمن وسوريا، مع أنه هاجر بمراحل مختلفة كما تؤكد الدراسات الجينية التي نشرناها آنفاً نحو أوروبا وشمال إفريقيا والشرق والهند، لكن مع ذلك فإن المستوطنات والمدن والكتابة الأولى بقيت آثارها في آسيا العربية دون منازع.
بناءً على كل ما سبق نؤكد على صحة النظرة العربية للخلق: إن الكائنات الحية لم تنبثق عن بعضها البعض، بل بقيت كل منها تدور ضمن دائرتها الجينية ومنظومتها الوراثية لم تخرج عنها قطّ. إنها برمجة حقيقية لا يمكن أن تخرج عنها. إنها خوارزميات ذات نتائج حتمية إذ لا يمكن لبذرة التفاح أن تنتج قمحاً ولا العكس.. لذا، فالإنسان العاقل خُلق تخليقاً ولم يتطور عما قبله من كائنات، دعاه العرب بالجنس العاقل وهذا تعبير دقيق، إنه ينتمي للنوع البشري الذي ينقسم لجنسين: جنس عاقل – آدم، وجنس بدائي – بهائمي. (لمزيد من التفاصيل راجع الجزء الأول من موسوعة نينورتا التاريخية – قصة الخلق).
نعتقد بأن كل الهياكل التي درسها علماء الأنتروبولوجيا هي في الغالب هياكل للجنس البدائي ولو كان منتصباً، لذلك لا يمكن الاستناد عليها في معرفة سيرورة الإنسان العاقل، لأنه جنس مختلف تماماً.
إن آدم وحواء هما جنس بشري كامل جديد، عاقل، مفكر، خلّاق، وليسا شخصين بعينهما. أما لماذا دعا العرب هذا الجنس ببني آدم وليس بني حواء، ذلك لأن الرجل يحمل الذكورة والأنوثة معاً في الصيغة XY إذ إن Y المسؤولة عن صفة الذكورة ووجودها في الجنين تعني أنه ذكر حتماً، بينما الأنثى صيغتها الجينية XX، لذلك فبني آدم تشمل كلا الجنسين، وهذا أمر آخر يضاف إلى مزايا اللغة العربية، العلمية بذاتها.