“قسّم العلماء تاريخ البشرية تارةً بحسب الأدوات الأساسية المصنعة إلى عصر حجري، وعصر البرونز، وعصر الحديد، وتارة بحسب المسيرة التطورية للإنسان كنوع من أنواع الكائنات الحية إلى: المرحلة الوحشية، تليها المرحلة البربرية (المقصود بها البرابرة وليس البربر)، وهاتان المرحلتان دعوهما عصور ما قبل التاريخ، ثم جاءت المرحلة الحضارية التي حدّدوا زمنها بظهور الكتابة، وهذه الثقافة انتشارية، أي أنها ظهرت في بقعة محدَّدة ثم انتشرت إلى بقية المناطق، معتبرةَ الشرق الأدنى البؤرة الحضارية الأولى، هذه المدرسة هي التي أيدها الكثيرون.
يعتقد بعض العلماء أن الإنسان الأول ظهر في جنوب إفريقيا بناءً على جمجمة طفل تعود ل 6 مليون سنة، كانت لكائنات تسير منتصبة لكنها خارج الشروط الإنسانية الكاملة، فدعوها القرد الجنوبي أو الاوسترالوبيتيك، تطور هذا الكائن القرد إلى كائن يستخدم الأدوات الحجرية دعوه الإنسان الصانع هوموهابيل، وجدت هياكله في إفريقيا في كينيا وتنزانيا، ولم يعثر له على مواقع خارج إفريقيا، مما يدل على أنه لم يغادر حدود هذه القارة أبداً.
ثم ظهر الهوموأركتوس حوالي 1,5 مليون سنة وجدت هياكله في آسيا وأوروبا وإفريقيا تعود لزمن 600 – 200 ألف سنة قبل الميلاد، كما وجد في موقع العبيدية في حوض نهر الأردن، هذا النوع استفاد من الملاجيء والمغاور الطبيعية كما اهتدى لبناء الأكواخ البسيطة كالتي وجدت في تنزانيا وسورية وفرنسا، بدأ يرتدي أوراق الأشجار والنبات وجلود الحيوانات.
ثم ظهر نوع من البشر أكثر تطوراً في حوالي 100 ألف سنة قبل الميلاد دُعي بإنسان نياندرتال أضاف مادتي العظم والخشب إلى المصنوعات بالإضافة للأسلحة، دُعي بالإنسان الصيّاد، وجدت مقابره في سورية والعراق (مثل كهف شانيدار في أربيل شمال العراق) وفرنسا وروسيا وألمانيا.
لا يزال الجدَل يدور حول مصير نياندرتال، ففي حين يعتقد البعض بتطور نياندرتال الفلسطيني – السوري إلى الإنسان العاقل، يقول آخرون بانقراضه، ومهما يكن من أمر فإن الحقيقة التي يجب قبولها هي أن النياندرتال الفلسطيني – السوري هو الذي انتقل نحو الإنسان العاقل، الجدّ المباشر للإنسان الحالي، وصانع الحضارة، لكن هناك من يرفض هذه الحقيقة ويصعب عليه أن يكون أصله من المشرق العربي القديم”. (سلطان محيسن، عصور ما قبل التاريخ، ص50،53،61،73).
وهنا نسأل، إذا كان الإنسان – القرد لم يغادر حدود إفريقيا كما يقولون بل وانتهى فيها ولم يتطور، فعلى أي أساس استند بعض العلماء المحدثين حين قالوا أن أصل الإنسان العاقل من إفريقيا؟، ثم إذا كان الشرق الأدنى بقولهم هو بؤرة الحضارة الأولى، فكيف يصح أن يكون القائم بهذه الحضارة الأولى قد وُجد في مكان آخر ثم انتقل إلى الشرق الأدنى؟، هل انتظر هذا الإنسان الذي وجد في بقعة أخرى خارج الشرق الأدنى حتى انتقل إلى الشرق الأدنى “ليقوم بدفع الحضارة بشكل لم يسبق له مثيل، إذ بلغ المستوى الاجتماعي والاقتصادي درجة عالية من التقدم والتنوع، تجسد ذلك مع العديد من الابتكارات الجديدة مروراً بالبناء والفن والمعتقدات والاستقرار والزراعة والتدجين، وقد انتشر هذا الإنسان صانع الحضارة على كل أرجاء المعمورة ووصل لمناطق لم يدخلها أي نوع قبله وكان أول من سكن القارة الأمريكية والاوسترالية وأصبح النوع الإنساني الوحيد السائد في كل القارات”؟ (المرجع السابق، ص63).
إذن وكما نرى، فإن علم الأنتروبولوجيا يؤكد ما نقوله ونؤكد عليه دائماً، أن الإنسان العاقل الأول وجد في المشرق العربي في آسيا العربية، ونعتقد أن زمنه يعود إلى ما بين 100 و50 ألف سنة قبل الميلاد، واسمه آدم بالنصوص الدينية، وهو رمز لجنس بشري كامل جديد انتشر حاملاً معه لغته وعلومه وقام بتمدين المعمورة. لذلك قمنا بعنونة هذه الموسوعة التاريخية بعنوان “لغتنا التاريخ.. وأسماؤنا”، وسنجد كيف أطلق هذا الإنسان الأسماء على كل مكان وصله فعلاً، بلغته الأولى، العربية.
وحتى اليوم فإن العلماء حين يتحدثون عن العصر الحجري، والبرونزي، والحديدي، فإن أول عبارة ترد هي عبارة “ظهر لأول مرة في الشرق الأدنى”، وحين يتحدثون عن العصر الحجري الأعلى الذي بدأ منذ خمسين ألف سنة وهي التي ميّزت فترة ظهور الإنسان العاقل Homo Sapiens، يقولون إن “أقدم حواضره وجدت في سوريا الهلال الخصيب وجزيرة العرب، أطلقوا عليها تسمية Emiran culture، وهي الأقدم تاريخياً على الإطلاق”. (المصدر دراسات علمية عديدة وحديثة منها Rose, Jeffrey I.; Marks, Anthony E. (2014). “”Out of Arabia” and the Middle-Upper Palaeolithic transition in the Southern Levant”. Quartär. 61: 49–85).
إذن، فآثارياً وأنتروبولوجياً هذه هي النتائج التي توصّل لها الباحثون أخيراً كما رأينا، فماذا يقول علم الجينات بهذا الخصوص؟ يتبع في الحلقة القادمة.
د. أحمد داوود، موسوعة نينورتا التاريخية – الجزء الثاني، اللغة الأم، ص213