مقطع من موسوعة نينورتا التاريخية للدكتور أحمد داوود، الجزء الثاني، اللغة الأم والإنسان الأول، ص 211
إن العلم لا يمكن أن يتنافى مع الدين، إذ إن القوى السيِّدة (الربّانية بالتراث) التي علّمت الإنسان كل شيء ليست بقوى جاهلة ولا هي محدودة، ولا حين خُلق الإنسان تُرك ليعيش حياة البهائم كما يروّج الغرب في نظريات بدأت تثبت بطلانها، بل تم تزويده بكل ما يلزمه ليحيا الحياة الجيدة النوعية، ليتطور، وليطوّر ما حوله. لقد زُوِّد باللغة، التي هي العربية، اللغة الأصل لكل اللغات، كما زُوِّد بالعلوم والمعارف.
وفي حين كان البشر البدائي في أماكن أخرى من الأرض يسكن الكهوف ويعيش على الصيد والترحال دعاه العلماء “الإنسان الصيّاد”، بدأت مسيرة الإنسان العاقل في آسيا العربية، في العصر الجليدي، بأفضل ما يكون، لأن عليه وقعت مهمة نشر التمدّن والحضارة. نعتقد أن ذلك الحدث يعود إلى 100 ألف سنة، وإن المكتشفات الأثرية في هذه المنطقة، من اليمن جنوباً إلى البحر المتوسط شمالاً حيث بلاد سوريا القديمة، ثم إلى وادي النيل ثم شمال إفريقيا ثم باقي سواحل المتوسط، تعجّ بالمستوطنات والمدن الأثرية التي أربكت العلماء حين وجدوا أنها تعود ل 20 ألف سنة قبل الميلاد، وبعضها يعود لـ 50 ألف سنة، وما زالوا يتحيرون في تحديد الزمن الحقيقي للمستوطنات الأولى في جزيرة العرب وبلاد سوريا، فأطلقوا عليهم تسميات مناطقية بحسب اسم الموضع الذي وجدوا فيه تلك الآثار كما يلي:
- “الحضارة الكبارية :Kebaran نسبة إلى كهف كبارة في جبل الكرمل جنوب حيفا على الساحل الفلسطيني، في سوريا التاريخية شرق المتوسط، تؤرَّخ المرحلة الكبارية الأولى بين 24 – 18 ألف قبل الميلاد، وقد وجدت أبكر البيوت الكبارية وأهمها في مواقع على الضفة الجنوبية الغربية لبحيرة طبرية، حيث كُشف عن استيطان كباري يعود إلى نحو 19 ألف سنة خلت، تألف من بضعة بيوت تضمنت مواقد وأدوات زراعية، والأهم من ذلك بقايا الحبال والشباك لصيد الأسماك، واكتشفت مستوطنات مشابهة في مواقع رأس النقب وشقبة وعين جيف في فلسطين، ووادي الحسا ووادي الحمى في الأردن، ويبرود وجيرود والكوم وجبل عبد العزيز في سوريا، وظهور شوير ومغارة جعيتا وكسار عقيل في لبنان، وامتدت آثارهم من ميناء العقبة جنوباً حتى البادية السورية شمالاً، ثم المرحلة الكبارية الثانية الوسطى التي تُؤرخ بين 18 – 14 ألف قبل الميلاد، وتسمى الكباري الهندسي Kebarian geometric بسبب الانتشار الواسع للأدوات ذات الأشكال الهندسية (مستطيل، مثلث، شبه منحرف)، وتمثل الدخول الكامل في العصر الحجري الوسيط (الميزوليت)، وحصلت فيها تطورات شاملة على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية، رافقها انتشار واسع للاستيطان الذي لم يقتصر على المناطق الغنية بالمياه (أحواض الأنهار وجوار البحيرات والساحل)، وإنما امتد إلى السهوب والهضاب الأقل أمطاراً، شملت هذه الثقافة الواحدة المنطقة من وادي الفرات حتى شبه جزيرة سيناء، ثم المرحلة الكبارية المتأخرة التي تعود إلى 14 – 11 ألف قبل الميلاد وهنا كان من الواضح أن الإنسان بدأ يتكيف مع المناخ المعتدل.
- – الثقافة النطوفية: نسبة إلى وادي النطوف شمال غربي رام الله في فلسطين، في شرق المتوسط، سوريا التاريخية، منطقة Levant (التي يعرّفها العلماء بأنها The historical region of Syria).
النطوفية مصطلح استخدمته لأول مرّة الباحثة الإنكليزية دوروثي غارود عام 1929 بعد أن اكتشفت الآثار المميزة لهذه الثقافة في مغارة شقبا في وادي النطوف، وهي تعتبر الخطوة الأولى للإنسان على طريق بناء أول مجتمعات زراعية في التاريخ. ظهرت حوالي 15000 قبل الميلاد ودامت حتى الألف السادس قبل الميلاد. ظهرت في هذه المنطقة دلائل زراعة الحبوب وتدجين الحيوان، كما وُجدت أدوات صنع الخبز، ودلائل صناعة البيرة منذ 13000 قبل الميلاد في جبل الكرمل في فلسطين، وقد توصّل علماء الآثار والأنتروبولوجيا ومنهم الأميركي كريستي ترنر إلى “وجود دلائل أثرية وأنتروبولوجية على وجود علاقة وثيقة بين الشعوب العربية (الناطقة بالسامية كما يدعونها) المعاصرة في منطقة شرق المتوسط، وبين النطوفيين”، الثقافة النطوفية انبثقت منها الثقافة الزراعية الأناضولية.
- الثقافة الأناضولية: وجدت في موقع شتال حيوك جنوب الرها السورية، “يعود زمنها للألف العاشر قبل الميلاد وتشكل إحدى أولى المجتمعات الزراعية في العالم”.
أما بالنسبة للّغة التي تحدث بها أولئك القدماء فقد وضع العلماء عدة فرضيات، كانت أقواها فرضية تقول بأنهم تحدثوا بلغة دعوها الما قبل طليعة السامية، pre-pro-Semetic جاءت من الشرق الأدنى، وهو مصطلح جغرافي يضم جزيرة العرب مع مصر وسوريا التاريخية التي تضم بلاد الشام والعراق والأناضول.
تحدث العديد من العلماء عن التشابه الكبير بين هذه الثقافات السورية القديمة Levantine وبين ما وجدوه في سواحل شمال إفريقيا، والتي دعوها ايبيرومورية وقفصية the Iberomaurusian and Capsian:
- الثقافة الشمال إفريقية، الايبيرومورية والقفصية: تعود زمنياً إلى 20 – 10 ألف قبل الميلاد، دعاها بهذا المصطلح الفرنسي Pallary حين اعتقد أنها جاءت من ايبيريا (إسبانيا)، ثم اتضح أن لا علاقة لها بإسبانيا، فأخذت تسمية الثقافة الوهرانية نسبة لوهران في الجزائر، أما الثقافة القفصية نسبة لقفصة في تونس فتعود إلى 9000 قبل الميلاد يقول العلماء أنها قدمت من الشرق الأدنى.
اعتقد البعض بأن الإنسان الموري القديم (سنتبنى هذا المصطلح بدلاً من ايبيروموري لأنه ثبت أن هذا الإنسان لم يأت من ايبيريا)، انتشر من شمال إفريقيا باتجاه شرق المتوسط، لكن ما لبث هذا الاعتقاد أن زال بعد اكتشاف ثقافة مشابهة تسبق الشمال إفريقية وجدت في منطقة القلمون في سوريا في النبك وجيرود، دُعيت النبكية Nebekian، تعود إلى المرحلة الكبارية الأولى أي 24 ألف قبل الميلاد، بينما الثقافة الوهرانية (المورية) ظهرت بعد ذلك زمنياً، لذلك بات علماء الأنتروبولوجيا اليوم يميلون للتأكيد بأن هذا الإنسان الذي وجدت آثاره في شمال إفريقيا ذو أصل شرق متوسطي.