شرحنا في كتبنا السابقة كيف صار الطوفان العظيم ونعود للتأكيد على الأسس العلمية التالية:
- الطوفان لم يضرب كلَ الأرض كما تدّعي بعض كتب التفاسير التي تأثرت بشكل واضح بالإسرائيليات وبالقصور في فهم النصوص التاريخية والدينية.
الطوفان ضرب بعض المناطق نتيجة لتغير في منسوب المياه واضح وقاسي ميز التغييرات المناخية والجيولوجية التي رافقت ظروف العصر الدفيء والذي يقدر العلماء بدايته بحوالي 12000 قبل الميلاد. إذ وبسبب ذوبان كتل الجليد فقد ارتفعت مناسيب البحار والأنهار وتشكلت مسطحات مائية جديدة كفالق البحر الأحمر والخليج العربي الذي غمرته مياه البحر بعد العصر الدفيء.
كذلك حدث تضخم شديد لكتلة المياه الجوفية ضغطت على القشرة الأرضية فتفجرت العيون والمغاور بالمياه، وخرجت المياه إلى سطح الأرض بشكل جارف، ترافق كل ذلك، وفي فترة طوفان نوح بالتحديد والتي يقدرها العلماء حوالي الألف السادس قبل الميلاد، بانهمار غزير للأمطار، مع ظاهرة أخرى شديدة الخطورة هي فوران المياه من الجبال البركانية. نقرأ هذا الوصف الدقيق في آيات القرآن: {واصنَع الفُلكَ بأعيُننا ووَحينا ولا تخاطبْني في الذين ظلَموا إنَّهم مُّغْرَقون. ويصْنعُ الفُلكَ وكلَّما مرَّ عليْهِ ملأ من قوْمهِ سخِروا منهُ قال إن تَسْخروا مِنا فإنَّا نَسْخَر منكُمْ كما تَسخرون. فسوفَ تعلَمونَ مَن يأتيهِ عذابٌ يُخزيهِ ويَحِلُّ عليْهِ عذابٌ مقيم. حتّى إذا جاء أمْرُنا وفارَ التّنورُ قُلْنا احْمِلْ فيها مِن كُلٍّ زوجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلكَ إلاَّ مَن سبَقَ علَيْهِ القَولُ ومَنْ آمَنَ وما آمَنَ معَهُ إلاَّ قليل} (سورة هود 36 – 40).
إن تعبير «فار التنور» يعني حكماً بأن الجبال البركانية فاضت بالمياه، إذ أن التنور هو فوهات النار كما أنها ذات شكل مخروطي، وتُدعى الجبال البركانية المخروطية.
- البشرية لم تنقرض أثناء الطوفان، وإن فرضية انقراض البشر أثناء طوفان نوح هي فرضية ساقطة علمياً يتبناها فقط جماعة اللاهوت الذين فسروا التوراة بشكل خاطيء، وأصحاب القصور في فهم النصوص الدينية البعيدون تماماً عن علوم الأرض واللغة والمناخ والأنتروبولوجيا، والذين جعلوا من نوح أباً ثانياً للبشرية ومن أبنائه سام وحام ويافث آباء لشعوب وقوميات جعلوا لهم لغات أيضاً، وإننا حقاً نشعر بالذهول من كم العقول الضيقة التي قبلت بمثل هذا الافتراء على التاريخ وعلى العلم.
فالقرآن أكد على أن هناك أمم نجت من الطوفان ليست من نسل نوح {قيلَ يَنُوحُ اهبِط بِسلامٍ منّا وبركاتٍ علَيكَ وعلىٰٓ أمَم ممَّن مَّعك وأُمم سنُمتِّعُهُم ثمّ يَمسُّهم مِنَّا عذابٌ أليم} (سورة هود:48).
كما أنه أكد على أن من تبقى من قوم نوح هم ذريته من بين قوم نوح وليس من كل البشر {وجَعلْنا ذرِّيّته هُمُ الباقِين} (سورة الصافات:77). كذلك {إنَّا أرسلْنا نُوحاً إلى قومهِ أنْ أنْذِرْ قوْمَكَ مِنْ قبلِ أنْ يأتيَهُمْ عذابٌ أليم ﴿1﴾ قال يا قَوْمِ إنّي لكمْ نذيرٌ مُبين ﴿2﴾ أنِ اعْبُدُوا اللهَ واتّقوهُ وأطيعونِ ﴿3﴾{. (سورة نوح).
إذن قصة النبي نوح، النبي العربي اليمني، متعلقة بقوم نوح العرب باليمن، وهذا واضح من أسماء مقدَّساتهم المحلية التي سردها القرآن في الآيات: {قالَ نوحٌ ربّ إنَّهمْ عصوْني واتَّبَعوا مَن لمْ يزِدهُ مالُهُ وولَدُهُ إلاَّ خسارا. ومكَروا مَكْراً كُبَّارا. وقالوا لا تذَرُنَّ آلهَتَكُم ولا تذَرُنَّ وَدّاً ولا سُواعاً ولا يَغوثَ ويَعوقَ ونَسْرا} (سورة نوح: 21-23)، ومن المعروف بأن هذه الأسماء تخص العرب في جنوب جزيرة العرب بالتحديد والقرآن واضح أنه يتحدث عن عرب وأسماء عربية، فالنبي نوح من هؤلاء القوم في تلك المنطقة باليمن، وهي المنطقة التي ضربها الطوفان وأغرق سكانها، فكيف صار قوم نوح هم كل البشر وبأي منطق؟
أما مكان حدوث طوفان نوح فالنبي نوح كان يسكن في منطقة تتصف بما يلي:
- أنها محاطة بجبال بركانية ذات شكل مخروطي «التنور».
- أنها بعيدة عن البحار لأن المياه المتدفقة لم تسحب السفينة نحو البحر بل نحو البر.
- أنها منطقة ليست جبلية بل تقع بين الجبال لأن المياه المتدفقة من الجبال أغرقتها تماماً، كذلك فلو كانت منطقة جبال عالية لارتطمت السفينة بإحداها وتحطمت أثناء سيرها.
- إن السفينة قد رست في نهاية الكارثة على الجودي، إذن رست على مكان منبسط وليس مكاناً عالياً كما توهّم البعض وجعلوه قمة جبل عالي، وكل بلد صار يسحب مكان رسو سفينة نوح إلى جهته دون أي دليل.
هذه المواصفات واضحة من خلال الآيات {وهي تَجري بهم في مَوجٍ كالجبالِ ونادىٰ نوحٌ ابنَهۥ وكان في مَعزِل يا بنيّ اركب معنا ولا تَكُن مع الكافرين (42) قال سـآوي إِلى جبلٍ يعصمُنِي مِن الماء قال لا عاصِمَ اليَوم من أمر اللهِ إلَّا مَن رحِمَ وحال بَينهُما المَوجُ فكان منَ المُغرَقين (43) وقيلَ يأرضُ ابلَعي ماءكِ ويا سماءُ أقلِعي وغِيضَ الماءُ وقُضِيَ الأمرُ واستَوَت على الجُودي وقِيلَ بُعداً للقوم الظالمِين (44)} (سورة هود).
نستنتج من هذه المنطلقات العلمية والمنطقية بأن نوحاً كان في قاع سهلي منبسط تحيط به الجبال البركانية، وهذا لا يمكن أن يكون غير وصف لمنطقة صنعاء باليمن. نقرأ حول وصف أرض «صنعاء» وطبيعة تضاريسها مع الانتباه إلى تفاصيلها: «تقع صنعاء على منخفض واسع ومستوي ذي طابع سهلي يمتد بشكل طولي من الجنوب إلى الشمال ويتميز هذا السهل باتساعه في الجزئين الجنوبي والشمالي في حين تضيق مساحته نسبياً في الجزء الأوسط، كما ينحدر تدريجياً باتجاه الشمال. وتتميز معظم القشرة العلوية للسطح بأنها عبارة عن طبقة طينية سميكة وخصبة، إلى جانب ما يتميز به هذا السطح من وفرة المياه خصوصاً الجوفية منها.
تنحدر العديد من المجاري المائية من على سطح الأمانة حيث تصرف مياه الأمطار المنحدرة من المديريات المجاورة لأمانة العاصمة من الجهة الجنوبية بالإضافة إلى المياه المنحدرة من المرتفعات المحيطة بها من الغرب والجنوب والشرق وجميع هذه المجاري المائية تتجمع وتصب في السائلة الكبرى التي تتوسط العاصمة وتنحدر شمالاً وتروي مساحات واسعة من الأراضي في الأجزاء الشمالية خصوصاً الواقعة منها في إطار مديرية بني الحارث، وجزء من تلك المياه تصب في وادي الخادر، وتجدر الإشارة إلى أن هذه السائلة كانت مائية إلى وقت قريب وتجري فيها المياه بكميات على مدار السنة وكانت من ضمن استخدامات هذه المياه تشغيل وإدارة مطاحن الحبوب الحجرية التي كانت تستخدم في صنعاء القديمة والتي لا يزال بعضها حتى اليوم.

السلاسل الجبلية: تحيط بأمانة العاصمة سلسلة جبلية من الجهات الثلاثة الشرقية والجنوبية والغربية أشهرها جبل نقم، جبال عيبان وجبل عصر».
إذن فصنعاء تقع وسط قاع سهلي تحيط به الجبال، لكن هل هي جبال بركانية؟ نقرأ: «حرضة أرحب أو حَرَّة أرحب هي حقل بركاني نشط تاريخياً، تُعرف أيضاً باسم “حقل صنعاء – عمران البركاني”، أو “حقل صنعاء البركاني”، يقع الحقل على امتداد 1500 كم2 كهضبة بركانية. تحتوي الهضبة على عدد قليل من البراكين الصغيرة و60 مخروطاً بركانياً. حدثت ثورة عام 200 م على جانب مخروطي أقدم (جبل زبيب). وحدث انفجار آخر في حوالي 500 م على الجانب الجنوبي من مخروط الرماد (جبل حاطب). تدفقت الحمم البركانية لمسافة 9 كيلومتر».
إذن فصنعاء تقع في منطقة مخاريط بركانية (تنانير) فعلاً، كذلك نجد جبلاً بركانياً مخروطياً في «دمت» في محافظة الضالع جنوب صنعاء وفي قمته فوهة ضخمة بداخلها بحيرة كبريتية.
مسار «سفينة نوح» من صنعاء إلى صعدة، «الجُودي»:
إن صنعاء تقع في وسط البلاد في منطقة جبلية عالية على جبال السروات، ترتفع عن سطح البحر 2300 متر. هذا هو السبب الذي جعل قوم نوح يسخرون منه حين شرع ببناء السفينة، إذ من يصدّق بأن مدينة مرتفعة عن سطح البحر ومحاطة بالجبال يمكن أن تغرق؟، فنوح كان يصنع السفينة في البرّ في صنعاء بين الجبال وليس على شاطيء البحر، ولم يكن قوم نوح ليتخيلوا أنه كان مصيباً في إنذاره لهم بأن صنعاء كانت معرَّضة لكارثة بيئية حتمية، فنوح نبي عالم مزوَّد بالعلوم العظيمة كان يعلم الخطر القادم وأسبابه، وأنه سيتعين عليه أن ينتقل مع من يمكنه أن ينجيه إلى منطقة أخرى خارج صنعاء ناجين من موت محقق، ليبدأ فيها من جديد، لذلك حمل معه ما يمكن حمله من أنواع النبات والحيوان لكي يمكنهم البقاء لفترة طويلة في مكان آخر. لكن أين؟
من الواضح بأن المياه الجوفية قد اندفعت بقوة وغزارة غير مسبوقة من فوهات المخاريط البركانية المنتشرة جنوب صنعاء وشمالها وحولها ما أدى إلى غرق منطقة صنعاء بالكامل، فارتفعت السفينة التي بناها نوح وركبها مع ارتفاع منسوب المياه وطافت على سطح الماء المائج والمندفع.
واضح من وصف محيط صنعاء بأن الفتحة الوحيدة التي يمكن أن يمر منها الماء المتدفق هي الفتحة الشمالية حيث تنحدر تضاريس صنعاء انحداراً نحو الشمال، وهذا هو الاتجاه الذي سلكته سفينة نوح بمن فيها وصولاً إلى «صعدة»، حيث قامت الأرض بابتلاع الماء بعد مدة محددة، ورست السفينة في صعدة «تقع محافظة صعدة شمال غرب العاصمة صنعاء، وسميت صعدة لأن ملكاً من ملوك حمير بنى فيها بناءً عالياً فلما رآه الملك قال لقد صعّده. صعدة تضريسياً هي إقليم منخفض يدعى (حوض) صعدة يرجع تشكل هذا الإقليم إلى زمن انفصال أرض اليمن عن كتلة أفريقيا، ويرجع هذا التكوّن إلى التواء مقعّر وهبـوط في القشرة الأرضية، كما يسمى هذا الحوض أو المنخفض بقاع صعدة، ويتميز هذه الإقليم مناخياً بندرة الأمطار بسبب سلاسل المرتفعات الجبلية الغربية التي تعمل على حجز الرياح المحمّلة ببخار الماء».
الأساطير العربية القديمة التي وجدت في جنوب العراق والتي تعود لعرب البصرة والأهوار الذين دعاهم كريمر زوراً بتسمية خيالية هي «السومريين»، تذكر بأن «ذو سدرة» الذي هو نوح قد ركب السفينة ناجياً من الطوفان ونزل على جبل «نصير»، وفي التوراة على جبل «أراراط»، أما في القرآن فرست السفينة على «الجُودي». وفي كتب التراث أن نوحاً نزل في مكان بنى فيه قرية دعاها «الثمانين» «وفى ذيل جبل الجودي قرية يقال لها الثمانين يقال أول ما نزل نوح من السفينة عمّر هذه القرية وسكن بها مع جماعته وفيها بيته».
إذن علينا أن نجد كلاً من: جبل نصير، وأراراط، والجودي، وقرية الثمانين في صعدة.
- إن نصير هي نقل عن اسم مكتوب بالمسمارية ويخص تراث العرب الأقدمين، فربما تكون بالأصل النشور، وما يزال جبل النشور ووادي النشور في صعدة؛ وربما تكون جبل النظير الذي ما يزال قائماً بهذا الاسم حتى اليوم شمال صعدة.
- أما أراراط فهي بالأصل الحرّات أو الحَرارات والحَريرات وهي بلسان العرب: المحرورات والحِرار والحَرّات: أرض ذات حجارة سود نخرات كأنها أحرقت بالنار، وهي طبيعة منطقة صعدة فعلاً إذ تنتشر بها الحجارة السوداء المنخورة بشكل واضح.
- وأما الجُودي فهي التسمية السريانية القديمة لصعدة إذ نجد في القاموس الكلداني: جدي، جوديا: ارتفع، صعد، علا. وتقول كتب التراث بأن العرب دعوها صعدة بسبب ارتفاع بنيانها فعلاً. فالعلو عند العرب هو التصعيد وهو بالسريانية جودي.
- وأما القرية التي بناها نوح وزرعها وعاش فيها والتي دعاها الثمانين فما تزال حتى اليوم في صعدة في منطقة صحوة وتدعى مزارع الثمانين. وهي فعلاً تقع في ذيل جبل يدعى براش ويتميز بقمة سوداء، يبدو أن «جبل براش» في صعدة في بلدة صحوة هو الذي رست فيه سفينة نوح التي صُنعت من الخشب لكنه بالتأكيد قام بتصفيحها لحمايتها من الارتطام بالصخور والجبال.
من موسوعة نينورتا التاريخية – الجزء الثاني (اللغة الأم). فصل جغرافية الأنبياء. الدكتور أحمد داوود، ونينورتا أحمد داوود.
